جوانب مضيئة من رحمة النبي


بقلم د. حمادة إسماعيل شعبان
مدرس اللغة التركية المساعد بكلية اللغات والترجمة، جامعة الأزهر
لا شك أن التاريخ ليس مجرد سرد لأحداث الماضي ووقائعه بل هو علم جليل له فوائد عديدة ومهمة من أهمها تقوية اعتزاز الإنسان بأمته وماضيها وبطولاتها والاستفادة من أخطائها وأخذ العبر والدروس من هزائمها وأخفاقاتها، ومن ثم يعتبر التاريخ باستمرار مصدر إلهام للإنسان في إبداعاته يدفعه دائمًا إلى الاقتداء بقادة بلاده التاريخيين الذين حققوا لها انتصارات رائعة وسطروا في تاريخها صفحات بيضاء ناصعة لا تشوبها شائبة. فالتاريخ وقراءته تشحذ الهمم وتبعث الروح وتخلق التنافس في حب الخير والقيام به لصالح البلاد والعباد.

ومما يؤسف له أن بعض كُتَاب التاريخ وخصوصًا التاريخ الإسلامي والسيرة العطرة للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم يركزون في كتاباتهم ومؤلفاتهم فقط على حروب النبي وصحابته وشجاعتهم وبسالتهم وفدائيتهم التي لا يستطيع أن ينكرها أحد، ولكن للأسف الشديد فإن هذا الأسلوب في تناول السيرة النبوية العطرة قد يعطي انطباعًا لدى البعض وخصوصًا محدودي الثقافة الدينية أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم كانوا يهوون الحروب، ويصدر هذا للشرق قبل الغرب وللمسلمين قبل غيرهم، وهذا خطأ كبير وافتراء محض، فالنبي كان رسول مرحمة لا ملحمة، نبي سلام لا نبي حرب

ظل النبي في مكة قبل الهجرة ثلاثة عشر عامًا يدعو قومه إلى الإيمان بالله وحده وترك عبادة الأصنام، وتحمل في سبيل ذلك شتى أنواع العذاب، ولم يثبت قط أنه صلى الله عليه وسلم قد قابل عنفًا بعنف أو إساءة بإساءة، أو توعد بتوعد، بل كان صلى الله عليه وسلم نبيًا للرحمة، ويتعامل بالرحمة، ويعلم أصحابه الرحمة في كل شيئ، وكان حريصًا على أن يعلمهم ألا يقابلوا إساءة وأذى أحد بمثله، وأن لا ينجرفوا إلى العنف والشدة والقسوة مهما كان

فعلى سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: “اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن” (الترمذي). ولم يقف عفو وتسامح النبي صلى الله عليه وسلم عند حد القول والتوصية فقط بل انتقل إلى المرحلة العملية، التي ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في التسامح والتعايش والرحمة، فذات يوم قال أبو جهل لمن حوله من منكم يذهب فيأتينا بسلا الجزور (أمعاء الجمل) الذي ذُبح بالأمس عند بني فلان، فإذا رأى محمدًا ساجدًا وضعه بين كتفيه”، فقام “عقبة بن أبي معيط” وجاء بسلا الجزور ووضعه وآلقاه بمعاونة رجاله على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، ثم تنحوا جانبًا وأخذوا يضحكون ويسخرون من النبي، ووصل الخبر إلى بيته صلى الله عليه وسلم، فهرولت إحدى بناته يقال إنها السيدة زينب رضي الله عنها، ولما رأت حال أبيها حزنت حزنًا شديدًا وجعلت تمسح القازورات عن ظهره الشريف، ثم أقبلت تنهرهم، فسرى النبي صلى الله عليه وسلم عنها قائلاً لها “لا تبكي فإن الله مانع أباك”.

فالشاهد هنا هو أن النبي لم يقابل الإساءة بالإساءة، ولا العنف بالعنف، ولم يتوعد أحد ممن حوله، ولم ينظر إليهم نظرات مليئة بالانتقام والتهديد، بل جل ما فعله أن توجه إلى الله قائلاً: “اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش … الحديث” (صحيح البخاري). الأسلوب نفسه تعامل به النبي يوم أن ذهب إلى الطائف يدعو الناس هناك إلى الإسلام، فإذا بهم يقابلونه بعنف وشدة وقسوة كان نتيجتهم أن سالت الدماء الزكية منه صلى الله عليه وسلم، فأوى إلى شجرة ثم شرع في صلاته ثم رفع يديه إلى السماء داعيًا دعائه المشهور “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هى أوسع لي، أعوز بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك”.

وما أن انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه وتضرعه حتى جاءه الوحى وبصحبته ملك الجبال، وقال له جبريل عليه السلام “إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم”، وهنا قال ملك الجبال للنبي صلى الله عليه وسلم “يا محمد إن شئت أطبق عليهم الأخشبين”. فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا “لا، عسى الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا”.

فهذه هى إخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو تسامحه صلى الله عليه وسلم، وهذه هى رحمته صلى الله عليه وسلم، وهذه هي فطرته السليمة وأخلاقه السامية ومثاليته العالية، لم ترى الدنيا لصفاته مثيلا، ولا لأخلاقه نظيرا، ولا لعلو همته منافسًا. بأبي أنت وأمي يا رسول الله، “صلى عليك الله يا علم الهدى، واستبشرت بقدومك الأيام، هتفت لك الأرواح من أشواقها، وازينت بحديثك الأقلام”.

“صلى عليك الله يا خير الورى، تعداد حبات الرمال وأكثرا، صلى عليك الله ما غيث همي، فوق السهول وبالجبال وبالقرى، يا خير مبعوث بخير رسالة، للناس يا خير الأنام وأطهرا”. فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد في هذا الموقف أن يرسل رسالة إلى أمته ألا تنجرف إلى العنف والغضب وإلحاق الضرر والأذى بالآخرين، كما أرسل إليهم رسالة أخرى مفادها أن يكون للأنسان في حياته غاية وهدف نبيل يسعى إليه ويتحمل المشاق في سبيل تحقيقه، فالنبي هنا بالرغم ما وقع عليه من أذى يتحرر من الغضب لنفسه ويرفض عرض ملك الجبل عليه بأخذ الثأر له، وذلك لغاية نبيلة تخدم دعوة النبي وهى أن يُخرج الله من أصلاب هؤلاء المعادين للدعوة من يحملها على كتفه ويبلغها للدنيا بأسرها.

إن مواقف رحمته صلى الله عليه وسلم وتسامحه مواقف كثيرة لا يتسع لها مقال واحد ولا جلسة واحدة ولا كتاب واحد، ولا والله عمر واحد، بل ستظل الأجيال كل يوم يكتشفون الجديد في سيرته، ويتعلمون الجديد من تسامحه ورحمته. أما حروبه صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أحد أن يقلل من شأنها، لكنها شغلت أقل حيز في حياته مقارنة بالأمور الأخرى، فحياة النبي بعد بعثته استمرت ثلاثة وعشرين عامًا، أي حوالي ثمانية ألاف يوم، عند النظر إليهم نجد أن الحروب الفعلية والقتال الفعلي لم يستمر أكثر من يوم ونصف، إذا استثنينا وقت الخروج للغزوات والاستعداد لها، لذلك ليس من العدل أن نركز على يومين في حياته صلى الله عليه وسلم ونهمل سبعة ألاف وتسعمائة وثمانية وتسعين يوم.

وسوف اتحدث في المقال القادم إن شاء الله عن حروب النبي ودوافعها، لكني الآن أريد أن أوصي الدعاة إلى الله أن يركزوا على قواعد الأسلام ومبادئ الفضيلة وأسس التعامل وقواعد المواطنة التي رسخها النبي طوال حياته بعد البعثة وحتى وافته المنية، صلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم.