بقلم. : د/ حمادة إسماعيل شعبان
أستاذ اللغة التركية المساعد بجامعة الأزهر
لاشك أن العالم العربي والإسلامي يتابع منذ الرابع عشر من يوليو ما يدور في المسجد الأقصى من أحداث يتابعها القاصي والداني بترقب وقلق سواء على المسجد أو على الشعب المقديسي البطل المرابط الذي يدافع عن تراثه ومستعد للتضحية في سبيل حمايته والحفاظ عليه والتضحية في سبيله بالغالي والنفيس، لاسيما إذا كان هذا التراث الإسلامي هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولذلك عاش المقديسيون خمسة عشر يومًا في حزن عميق لا يصدقون أن أولى قبلتيهم وثاني مسجديهم ومسرى رسولهم الكريم بلا آذان وبلا قيام وبلا ركوع وبلا سجود وبلا دعاء، يحاصره المحتلون ويفرضون شروطهم ويطلقون تهديداتهم ويريدون التحكم في المسجد .
لكن صمود الشعب الفلسطيني في القدس الشريف وتضامنه ووحدته وسلميته حال دون تنفيذ شروط العدو المحتل.
ولقد صرح “يوسف إيديس” وزير الأوقاف الفلسطيني أن السلطات الإسرائلية ومعها مجموعة من المستوطنون اليهود قاموا بتنفيذ مائة وأربعين اعتداء على المسجد الأقصى خلال شهر يوليو المنصرم، ومعظم هذه الاعتداءات كانت في الفترة بين 14 إلى 27 يوليو.
ونحن إذا كنا نتابع بحزن ممزوج بالقلق لما كان ومازال يدور في المسجد الأقصى كان لزام علينا أن نحاول قدر استطاعتنا استنباط العبر والدروس التي يمكن أن نستفيد منها في المستقبل، وأهم هذه الدروس والاستنتاجات التي خرجنا بها من هذه الأزمة هو وجود تضامن ووحدة وطنية قوية بين المسلمين والمسيحيين في مدينة القدس الشريف، فلقد رأينا جميعًا على صفحات الجرائد وشاشات القنوات الفضائية مجيئ المطران “عطا الله حنا”، رئيس أساقفة سبسطية الروم الارثوذكس في القدس إلى باب المسجد الأقصى لمساندة المسلمين المحتجين على وضع بوابات اليكترونية على أبواب المسجد الأقصى، مؤكدًا على أن الشعب الفلسطيني مسيحيين ومسلمين يد واحد ضد الاحتلال والعنصرية التي تمارسها إسرائيل.
وقال بإن من يستهدفون اليوم المسجد الأقصى هم أنفسهم من يستهدفون الأوقاف المسيحية في القدس ويريدون الاستحواز عليها بطريقة غير قانونية. وأشار إلى ضرورة الحفاظ على الوحدة الفلسطينية أمام العيون المفتوحة لإسرائيل التي تستهدف الشعب الفلسطيني كله بمسلميه ومسيحيه.
كما أعلن أن كنائس القدس جميعها تتضامن مع المسجد الأقصى وإنه موجود اليوم على باب الأقصى ليعلن مرة أخرى تضامنه وتضامن جميع المسيحيين في القدس مع إخوانهم المسلمين، وليؤكد على أن استهداف الأقصى ليس تصرفًا يستهدف المسلمين فقط بل يستهدف المسلمين والمسيحيين على حد سواء. فالشعب الفلسطيني شعب واحد يناضل من أجل الحرية على حد تعبيره.
كما أن صورته وهو مصطف مع المسلمين في صلاة الجمعة يقرأ الإنجيل ويدعو للمسجد الأقصى قد أحدثت صدى واسع على مواقع التواصل الاجتماعي. ولم يكن الأمر قاصرًا على المطران “عطا الله حنا” فقط بل أن القس “مانويل مُسلم” عضو المجلس الإسلامي المسيحي في الضفة الغربية تحدث للصحف العربية والأجنبية وكأنه هو المتحدث الرسمي باسم المسلمين.
وأعلن بكل قوة أن الفلسطينين لن يدخلوا المسجد الأقصى عبر البوابات الإليكترونية التي وضعها العدو المحتل، ولم يكتفي بهذا بل هدد بعصيان مدني في فلسطين كلها إذا ظل العدو الصهيوني مُصر على عدم إزالة البوابات، ومؤكدًا على أن العصيان حل سلمي قد يؤدي بهم في النهاية إلى الخلاص من العدو المحتل، وقال بإن النضال من أجل المسجد الأقصى والقدس هو جزء أصيل من النضال ضد المحتل، وإنهم كشعب عربي يعيشون تحت الاحتلال الصهيوني وإنهم على استعداد للقيام بأي شيئ من أجل الخلاص من هذا المحتل.
كما دعا الشعب الفلسطيني إلى دوام الوحدة وإلى تأسيس منظمة تحرير جديدة من أجل مستقبل بلا احتلال لفلسطين. كما وجه عدة أسئلة للعدو الصهيوني بإسلوب حماسي كخطيب مفوه قائلًا: “من أجل من تضعون بوابات إليكترونية على أبواب المسجد الأقصى؟ هل من أجل أن تحموا المسلمين من المسلمين؟ أم من أجل أن تحموا المسيحين من المسلمين؟ إن جميع ما تقولونه كذب وافتراء. لم نرى اجراءاتكم هذه عندما قام مستطوطنون يهود بقتل المسلمين سواء في الأقصى أو في مسجد الخليل إبراهيم، إن الغريب هنا في القدس هو أنتم وجنودكم ، إنكم أنتم من تنتهكون حرمات المسجد وتمنعون التعبد في دور العبادة. أنتم السبب لما حدث في الأقصى يوم 14 من هذا الشهر”.
أما الدررس الثاني المستفاد من هذا الحصار فهو الوعي العالي لدى الفلسطينين ومعرفتهم جيدًا ما يُدار لهم، وعدم وقوعهم في فخ الصراع الديني التي كانت إسرائيل تريد جر الفلسطينين إليه، حتى يُظهروا للعالم عنصرية المسلمين وأنهم لا يتقبلون المختلف معهم في الدين، وقد فطن الشعب الفلسطيني رجالًا ونساءًا لهذا الأمر، بل أن أطفالهم أيضًا كانوا يعرفون ذلك، وها هي الطفلة “جنة جهاد” الحاصلة على لقب أصغر مراسلة صحفية في العالم، والبالغة من العمر أحدى عشر عامًا والتي تشارك في جميع المظاهرات ضد العدو المحتل، قامت تصرخ بأعلى صوتها، والتقطتها كاميرات مراسلي الصحف وهى تقول “إننا لن نترك بلدنا فلسطين أبدًا، لقد أغلق العدو المسجد الأقصى، ووضع البوابات الإليكترونية على أبوابه، وفي أقل من ثمان وأربعين ساعة سقط منا ربعمائة جريح. إنهم يحاولون إظهار الخلاف بيننا وبينهم على إنه صراع ديني، وهذا غير صحيح”.
في النهاية يرى كاتب هذا المقال أن المحن لا تُزيد الشعب الفلسطيني إلا قوة وصلابة، وأن المسجد الأقصى لا يزال في قلب الشعوب العربية والإسلامية بالرغم من المشاكل الكثيرة التي تعاني منها بلدانهم، حفظ الله فلسطين والعالم العربي والإسلامي من كل سوء.