كتب: محمد حنفي الطهطهاوي
ينشر “السياسي” كلمة الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر في الاحتفال بأوائل الثانوية الأزهرية ، الذي تم تنظيمه اليوم
بسم الله الرحمن الرحيم
السَّلامُ عَـلَـيْكُم وَرَحـْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه.. وبعد؛
فيسعدني باسمِ الأزهر الشَّريف جامِعًا وجامعة، وبالنِّيابة عن بناتنا وأبنائنا أوائل الثانويَّة الأزهريَّة، وباسمي شخصيًّا – أن أُرحِّبَ معالي أ.د/ علي عبد العال – رئيس مجلس النواب، وأشكركم جزيل الشُّكر وأقدِّر تقديرًا بالغًا اهتمام معاليكم وحرصكم الأبوي الكريم على مشاركة أبنائكم وبناتكم أوائل الثانويَّة الأزهريَّة فرحتهم الغامرة بتفوقهم وحصـولهم على المراكـز الأولى، وتشجيعهم على تجديد العزم والإصرار على طلب العلم، والانخراط في مرحلة جديدة من مراحل التعليم، وتحصيل المعارف في شتى فروعها ومناحيها.
والحقيقة إن وجودكم اليوم مع أبنائكم يحمل إلى الأزهر سعادتين كبريين، سعادةً بتهنئتكم الشخصيَّة وتقديركم للمُتَميِّزين والمجتهدين مِمَّن سهروا وتعبوا وكابدوا من الشَّباب الجاد المنصرف بكل جهده ووقته وطاقته إلى استذكار دروسه والتطلُّع إلى التفوق والتميُّز. وسعادةً أخرى وكبرى هي ما تمثلونه من تهنئة الشعب المصري بأكمله، وعلى رأسه سيادة الرئيس/ عبد الفتاح السيسي – رئيس الجمهورية للمُتفوقين والمتفوقات من أبناء هذه المؤسَّسة العريقة التي تتسابق على التعاون معها كبريات جامعات الغرب والشرق.
شُكْرًا لكُم معالي أ.د/ رئيس مجلس النوَّاب مَرَّةً ثانية وثالثة.
واسمحوا لي أيُّها السَّادة الأفاضل، أنْ أُبيِّن –في إيجازٍ شديدٍ- أمرين يتعلَّقان بهذه المناسبة السعيدة:
الأوَّل: لفت النَّظَر إلى أنَّ الطالب الأزهري في المرحلة الابتدائيَّة والإعداديَّة والثانويَّة يدرس كل المواد التي يدرسها الطالب في مدارس التربية والتعليم، مادة مادة، وكتابًا كتابًا، ثم يتحمَّل الطالب الأزهريُّ عبئًا استثنائيًّا أثقل ورُبَّما أعمق دراسة، وهو: المواد الأزهريَّة في المرحلتين: الإعداديَّة والثانويَّة، بقسميها: العلمي والأدبي.. أردتُ أن أقولَ لسيادتكم معالي أ.د/رئيس مجلس النواب: إن هؤلاء الطُّلاب والطَّالبات الذين يجلسون أمامكم هم نوع استثنائي مُتميِّز: ثقافةً وعِلْمًا ومعرفةً، وسِعَة اطلاع على علوم اللُّغَة والأدب وعلوم النَّقْل والعَقل معًا.
ولأنني درستُ هذين المنهجين حيث كنت طالبًا بالقسم الثانوي من عام 1960م إلى 1965م من القرن الماضي. أُدرك حجم المعاناة التي يلقاها الطالب الأزهري في التعليم ما قبل الجامعي.
الأمر الثاني: هو لفت نظر من عنده استعداد للنَّظرِ المنصف المتجرد إلى طبيعة منهج الأزهر التعليمي.. إنه –باختصارٍ شديدٍ أيضًا- منهج يحرص على دراسة الإسلام دراسة مجرَّدة خالصة لله وللعلمِ والحقِّ، وليست دراسة موجَّهة بأجنداتٍ أو سياساتٍ أو أموال موظَّفة لخدمة أغراض ومصالح ليست من العِلم لا في قليلٍ ولا كثير.. ثم هو منهجٌ يعتمدُ على ثقافةِ الحوار، وقبول الرأي والرأي الآخر، بل الآراء الأخرى، دون تكفير ولا تفسيق ولا تبديع، ما دام لهذا المذهب أو ذاك سند من كتابٍ أو سُنَّة أو إجماع أو قياس.
هذا المنهج التربوي الحواريّ يُرسِّخ في ذهنِ الطالب الأزهريّ منذ طفولته مبدأ شرعيَّة الاختلاف منذُ اليوم الأوَّل في دراستِه بالصَّف الأول الإعدادي، وحتى آخر يوم من دروس الصف الثالث الثانوي، حيث يختار كل طالب مذهبًا من المذاهب الفقهيَّة المتعدِّدة يدرس ويتمعَّن في رؤاه المختلفة، ويُدرِّب ذهنه ويهيئه لاستيعاب أكثر من رأي، وأن هذه الآراء –رُغم تبايناتها الواسعة- كلها صحيحة ومقبولة، ومنهج مُعتدل كهذا يُصاحِب طلاب الأزهر في دراستهم على مدى سنواتٍ ست، وهم ما بين الثانية عشر والثامنة عشر من عمرهم لاشكَّ يصيغ عقولهم ووجدانهم صياغة وسطًا تجنِّبهم الانغلاق والاستقطاب والوقوع في براثن الفِكر المتشدِّد والمتطرِّف، والانغلاق في مذهبٍ واحدٍ يَراهُ المتطرِّف هو المذهب الصَّحيح، وغيرهم باطل وضلال، ويرى المتمذهب به مارقًا من ربقة الإسلام، حلال الدَّم والمال والعرض.
ونحن لا نُنكر أن تاريخَ المسلمين –قديمًا وحديثًا- قد ابتُلي بمذاهب مُنحَرِفة تجنح للعُنفِ والتَّشَدُّد والتطرُّف، وتكفير المذهب -أو المذاهب- المخالفة، ولكن من الجهل الفادح أن يقال: إن هذا الانحراف هو السمة الغالبة على تُراث المسلمين لأن الأمانة العلميَّة والتاريخيَّة تُحتِّم القول بأن هذه المدارس أو المذاهب المتشدِّدة مثلَّث شذوذًا في تاريخ هذا التراث العظيم، وأنها قد تطفو على السطح حينًا من الدَّهر وتتسلَّط على البُسطاء من العامَّة والدُّهماء، لكنها سُرعان ما تسقط وتنهار بكِّل ما أُنْفِقَ عليها من ثروات ودنانير الذَّهب ودراهم الفِضَّة.
.. .. ..
بناتي وأبنائي أُكَـرِّر تهنئتي لكم على تفوقكم، وعلى اجتيازكم المرحلة الثانويَّة ووصولكم إلى المرحلة الجامعية.. وإن كانت لي من نصيحة أبوية في هذه المناسبة فهي –بعد تقوى الله عز وجل في السِّر والعلانية- أن تعتصموا بالأخلاق، وتتحلوا بالعلم، «وأنبِّهكم إلى زيادة الجد والعمل»، وألا ترهنوا عقولكم لدُعاة الشر والتخريب وابتعدوا عنهم وعن مغرياتهم المادية والخِدْميَّة بُعد الطَّيِّب من الخبيث، وتذكَّر دائمًا أن أُسرتكَ أرسلَتك للعلم، والتفرُّغ لتحصيله آناءَ اللِّيل وأطراف النهار، واحرصوا على أوقاتكم ولا تضيعوها في الثرثرة والأحاجي والسَّهر فيما يضر ولا يفيد.
واعلموا أنكم إن أعطيتم العلم كل وقتكم فسوف يعطيكم بعضه فقط، وإن أعطيتموه بعضكم فلن يعطيكم شيئًا.
شُــكْـرًا لَـكُــم.
والسَّلام عَليكُم وَرَحـْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه.