بقلم اسماعيل جمعه الريماوي باحث وكاتب فلسطيني
سقطت الإنسانية وحقوق الإنسان، وكل ادعاءات القِيم وكل الأقنعة وبات هينا لدولة الكيان أن تفعل ما تريد، حيث أزهقت الأرواح، وحوصرت غزة، ونزف الناس دما ودمعا، لكن فلسطين غالية وتستحق كل هذه الدماء التي تهون من اجلها.
أقنعة كثيرة أسقطتها حرب الإبادة التي تخوضها آلة الدمار الصهيونية ضد اطفال غزة،افتراءات جمة وخطيرة فضحت وتعرت رغم الجهود الكبيرة والأموال الضخمة التي أنفقت لأجل تسويقها وتثبيتها في عقول وأفئدة هذا العالم.
صرح الصهاينة علنا أنهم استغلوا تضافر عوامل متنوعة لم تجتمع لهم من ذي قبل، الدعم الأمريكي والأوروبي المطلق، ثم تحريض سري وتواطؤ وتعاون علني فاضح من قبل بعض الأنظمة العربية ، فضلا عن إمكانات لوجستية وميدانية غير مسبوقة، لخوض حرب اعتقدوها محسومة بسرعة وبدون خسائر ضد شعب أعزل لا يملك إلا القليل القليل مما يدافع به عن دمه وعرضه وما تبقى من أرضه.
وحددت أهداف كبرى لهذه الهجمة المتوحشة، جوهرها قهر ما تبقى من مقاومة لدى الأمة تجاه طوفان الاستكبار المعاصر، وضمان ذوبانها في لججه، وصهر إرادتها في بوتقته ، أما عنوان الحرب المعلن فهو القضاء على المقاومة ، ولضمان تحقق الأهداف الإستراتيجية بسرعة ودقة وعدم تكرار الأخطاء السابقة تم التهييء الجيد لوجستيا واستخباريا وسياسيا وإعلاميا.
وكذا اختيار الظرف المناسب واعتماد عنصر المفاجئة، والإفراط في استخدام العنف، قصد إيقاع أكبر حجم من الخسائر في قيادة المقاومة وجمهورها وتشتيت تركيزها تمهيدا لسحقها، ومن ثم تغيير الأوضاع على الأرض سياسيا بعد إنجاز التغيير العسكري الحاسم.
ويقتضي التغيير المنشود تطبيق مخطط معد سلفا بالتنسيق مع المتحالفين في هذا العدوان يبدأ بإلغاء سلطة الحكومة المنتخبة وإرجاع سلطة الفساد وقادة التنسيق الأمني مع الصهاينة ،هذه الخطوة كانت ستعبد الطريق مباشرة لفرض المشروع الصهيوني الأمريكي الذي تولت بعض الأنظمة العربية منذ مدة التبشير به و التجهيز له من خلال تسريع إيقاع وخطوات التطبيع الاقتصادي والثقافي والاجتماعي تمهيدا لتعميم التطبيع السياسي .
وهكذا خطط الأعداء و بدأوا تنفيذ مخططهم الجهنمي بانسجام كامل وتقاسم منظم للأدوار، فالصهاينة تكلفوا بحرب الإبادة، أما الأمريكان والأوربيون فقد تولوا تبرير الهمجية وتغطيتها سياسيا وإعلاميا فضلا عن دعمها لوجستيا وعسكريا في حين تقاسمت بعض الأنظمة العربية ـ خاصة من وصفت أمريكيا وصهيونيا بالدول المعتدلة.
باقي الأدوار إذ منها من تكفل بالشق السياسي من خلال عقد قمة عربية باهتة ، أو حتى إصدار أي موقف يدين العدوان أو يتحرك لوقفه، ومنها من تعهد بخوض حرب إعلامية ضروس ضد المقاومة ورموزها ودعما للعدوان قصد تضليل عقول جماهير الأمة ومحاولة وأد أية مبادرة للتضامن أو مجرد الاستنكار او الاحتجاج. و منهم من شارك في تشديد الحصار الاقتصادي ومنع المعونات الإنسانية، التي تشمل الأدوية وبعض الأغذية، من الدخول إلى غزة أو الوصول إلى المحاصرين و النازحين الذين يعيشون تحت القصف المتواصل هناك.
هكذا خطط الأعداء، وهكذا نفذوا فخلفوا دمارا فظيعا في الأرواح والممتلكات، ولازالوا مسترسلين في إجرامهم.
أمام كل هذا الصمت وتواطؤ العالم الرسمي من منظمات وحكومات ، وأمام صور القتل الشديدة و البشعة للأطفال والنساء ومشاهد الدمار الفظيع حطمت كثيرا من الأساطير، وقبرت كثيرا من الافتراءات والدعايات ومن جملة تلك الأقنعة التي سقطت والافتراءات التي فضحت الوجه الإنساني والحضاري للحضارة الغربية و قيمها الزائفة منذ القرن 19 جهد الغرب في تفعيل ترسانة دعائية ضخمة تشتمل مؤسسات إعلامية وسياسية وحقوقية واقتصادية.
وأنفقت الملايين ولا تزال لإبراز الوجه الإنساني للحضارة الغربية ، وبالرغم من أن الحروب الأخيرة على ما سمي بالإرهاب أحدثت شروخا عميقة في هذا الوجه البشع إلا أن الحرب على غزة أسقطت قناعه بالكامل ليظهر على حقيقته وجها دمويا كريها يمول ويشجع على قتل الأبرياء بل إبادتهم بدم بارد ، ولعل أبرز تجل لهذه البشاعة اعتبار أن حرب الصهاينة على غزة هي حرب دفاع عن النفس.
وللحديث عن نزاهة وموضوعية منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان ، كيف يمكن تفسير صمت المنظمات الحقوقية الدولية عن شلال الدم الفلسطيني المنهمر في غزة وعدم إصدارها لأي موقف صريح يدين همجية الصهاينة وحلفائهم، او انحياز هذا الموقف ؟ ألا يوفر له الغطاء الأخلاقي للاسترسال في إبادة المدنيين والأبرياء؟.
ولبيان حرص المؤسسات الدولية (مجلس الأمن والأمم المتحدة …) على الأمن والسلم العالمي،فلقد انكشف زيف هذا الشعار منذ مدة، خاصة بعد الحرب على العراق وأفغانستان ولبنان وسوريا فقد اتضح للعالم أن المؤسسات الدولية تكيل بمكيالين في ما يرتبط بقضايا أمتنا وحقوقها وتنحاز على الدوام لمواقف أعدائها ، وقد أسقطت الحرب على غزة هذا الشعار بشكل مطلق من ضمير العالم وساعدت الهمجية الصهيونية من خلال بشاعة جرائمها على تهاوي هذا الافتراء.
ولعل من أهم مكاسب الأمة من هذه الحرب الوحشية نزع ورقة التوت الأخيرة التي كانت تستر عورة الأنظمة المفروضة قهرا على الامة إذ كشفت حجم تواطؤها ودعمها للعدو بل و تحريضه وتغطية جرائمه وهذا ما وسع من دائرة إدانتها من قبل الشعوب الغاضبة والمنتفضة لنصرة المستضعفين في غزة، وقد لا أكون مبالغا في تفاؤلي إن استنتجت بأن الوضع الشعبي والنخبوي العربي مهيأ الآن أكثر من السابق للتغيير العميق ومستشرف لزوال عوامل الخيانة والاستبداد والفساد من بلدانه ومجتمعاته .
والكلام عن ركود الشارع العربي والإسلامي وبعده عن قضايا أمته وعدم تهممه بهمومها وانشغاله بأوضاعه الاجتماعية والاقتصادية المزرية، فلقد أبان التضامن المنقطع النظير خلال كل أيام العدوان، والذي لازال مستمرا، أن الأمة حية ولولا تسلط الأنظمة الجبرية على رقابها لنفرت لنصرة الأهل في غزة بالمال والسلاح والأرواح لاتخذت المعركة حينئذ منحى آخر.