في ظل العولمة والتطور المذهل لوسائل الإعلام وتكنولوجيا العصر، والتقدم الحضاري والتنمية البشرية وارتفاع نسبة تطور وتقدم العقل البشري، لم تعد منظومة الإعلام التقليدية صالحة لمنافسة المنظومات الحديثة والمعقدة، والتي تتبع في نهجها مساحات ضخمة من الحرية والتعبير والصراع الفكري والحضارة، متجاوزة كل الخطوط الحمراء مستعملة كل الأدوات المباحة وغير المباحة، رافضة لكل القيود والمعتقدات، ناهيك عن الأموال الطائلة والأرقام المخيفة التي ترصد يوميا من أجل السيطرة وفرض قوة الكلمة والمعلومة للوصول إلى خلق مناخ سياسي متعمد لتحقيق غايات دولية أو مصلحة وطنية معينة.
الآن وقد أضحى من غير اللائق والمقنع استعمال المشاعر والكلمات البراقة الرنانة لجذب قلوب وهوى القرّاء، إذ بات من غير المجدي استعمال الأكاذيب وتزييف الحقائق لوضع مسكنات في أكواب الهموم وتقديم علاج وهمي لكسب مساحات من الزمن كما اعتدنا سابقا.. فالأسلوب الذي اتبعته الأنظمة الإعلامية بإعلامها الموجه على مدار عقود لم يكن ليخدم مصالح شعوبها ومقدرات أوطانها قدر خدمته بعض القضايا أو توظيفها لأغراض سياسية لصالح مجموعة أشخاص داخل الحكومات أو ترسيخ صورة للرئيس القائد الزعيم البطل، مما أفقد الإعلام العربي مصداقيته وقدرته على ترسيخ مفاهيم وقيم عليا يستطيع من خلالها أن يطور مجتمعاتنا العربية وإحياء تراثها وقيمها الإنسانية، والتي كانت مناراً للعالم وبداية عهد الصحوة والتنوير..
ولعل فقدان المصداقية هو من أكثر المعوقات التي تزيد الأمور تعقيداً سواء للقارئ أو الباحث والإعلامي والصحفي والكاتب العربي خصوصاً، بعد أن أصبح الواقع شاهداً على العصر في زمن العولمة المرتبطة بالشبكة العنكبوتية وبروز وسائل التواصل الاجتماعي كأهم وسيلة إعلامية وترويجية على حد سواء، فغدت الصورة أكثر ترسيخاً من الكلمة وذلك لسهولة تداولها من خلال الأجهزة المسخرة لخدمتها وأخص بالذكر (الهواتف المحمولة) ذات التقنية العالية.
ومع كل ما ذكر أصبحت هذه الوسائل وغيرها مرتعا للتضليل الإعلامي لمن أراد. وهذا ما شهدته جليا المرحلة الراهنة وخصوصاً البلاد التي شهدت موجات ساخنة بين فئات متقاتلة، فكنا نشهد الخبر الواحد أو الصورة الواحدة ضمن نشرات الأخبار مستخدمة كل على غرضه أو هدفه مستحوذين على عقل المستقبل أو المتلقي، والحقيقة بأنه وحده المواطن العربي من دفع باهظاً فاتورة هذا الاستخفاف العقلي بوجوده كإنسان في تلك البقعة الممتدة من المحيط غرباً إلى الخليج شرقاً، لتبدأ بعدها رحلة تغيير تلك البقعة التي استعصت عليه مسلماً نفسه ليد القدر تتلقفه شواطئ أوروبا أو مخيمات النازحين كمهاجر فاقد الأهل والهوية.
وبنظرة تحليلية لواقع الإعلام الدولي نلحظ كيف استطاع أن يكتسب مصداقية لتغدو وكالاته هي المصدر الرسمي الموثوق به رغم توجهاته وإملاءاته ووضوح هذا جليا للمحلل البسيط، إلا أنه استطاع أن ينجح في كسب ثقة متابعيه ويحظى بالكثير من الاحترام رغم أننا كمثقفين ومتابعين للمطبخ الإعلامي نعلم سر الطبخة كما يقال.
وفي معرض الحديث عن الإعلام الدولي، حريٌّ بنا التعريج على التجربة الأمريكية إذ كان تطورها الإعلامي مختلفاً عن نظيره الأوروبي الذى حرص على الأكاديمية والبحث والتأصيل التاريخي والعلمي، إلا أن الإعلام الأمريكي اتبع أسلوباً آخر في استعمال أدوات وآليات أخرى قد تبدو للمفكرين والفلاسفة والأخلاقيين أكثر استنكارا، إلا أنه استعمل أسلوب الفضيحة الممنهجة للوصول إلى هذه المصداقية وتحت مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة).
ولضرب بعض الأمثلة فلنا في فضيحة (ووتر جيت) مثالاً واضحاً حيث أطاحت بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في عام1974، والتي بدأت أحداثها في عام 1972 عندما تم القبض على مجموعة تتجسس لحساب الرئيس على الحزب الديمقراطي المنافس محاولا كسب الانتخابات والتي اشتهر بتغطيتها الصحفي بنيامين برادلي رئيس التحرير السابق لصحيفة واشنطون بوست، والذي ارتبط اسمه بفضيحة ووترجيت، وأيضا تكرر المشهد بشكل آخر للرئيس الأمريكي بل كلينتون عام 1989 والذي كانت فضيحته الجنسية بالسكرتيرة الحسناء مونيكا لوينسكي وتناول الإعلام الفضيحة بأسلوب الحيادية والشفافية، الا أن هذه الفضيحة لم تعصف بالأخير بل أكسبته مصداقية عند شعبه وحبا أكثر عندما اعترف بشجاعة بالواقعة، كما لعبت زوجته هيلاري دوراً إعلامياً بارزاً عندما أعلنت تضامنها معه واستغلت الموقف لصالحها كامرأة قوية وكسبت حب وشعبية كبرى أتت بها بعد ذلك إلى المنافسة على كرسي رئاسة أمريكا.
نخلص من هذه التجربة أن الإعلام استطاع بكلتا الحالتين سواء عصف بمستقبل رئيس أو أبقى على آخر تحقيق المصداقية للجمهور، وأصبح مرجعاً موثقاً ويبقى السؤال: أيهما أنجع ليكسب إعلامنا العربي المصداقية ؟؟
للإجابة على هذا السؤال نحتاج أن ندرك أن الإعلام حرفة وفن ورسالة، ويخضع بكل الأحوال لآليات وقواعد وفقاً لخطوات ممنهجة. وهذا ما يجب على الإعلام العربي اتباعه لكسب ثقة إعلامييه وكتابه وأصحاب المهنة أولاً. ولابد للمنظرين والقائمين على صناعة الإعلام أن يوجدوا سياسة وبروتوكولا وميثاق شرف مع السياسيين وأصحاب القرار العربي للوصول إلى منظومة جديدة تعمل على إنقاذ الإعلام العربي من هذا الإنهيار ثانياً، وخصوصاً بعدما أثارت برامج (التوك شو) الكثير من الجدل فوضحت مآربهم وأغراضهم المدفوعة من قبل بعض الجهات الأمنية والتي تحركهم كما تحرك الخيوط العرائس الخشبية، ناهيك عن التجارة القذرة من الإعلانات الرخيصة والتي تبث في وقت تلك البرامج والتي ما جذبت إليها إلا غثاء المشاهدين من النسبة الكبرى المسجلة تحت بند الأميين أو الأكثرية الصامتة.
ومن المؤسف أننا ما زلنا نفتقد إلى الإعلاميين والمفكرين القادرين على اختراق حاجز الخوف، أو المتحررين من قيود الفكر الجامد والمشبع بالمذهبية والعرقية والقادم معهم من بلادهم الأم.
بدل التأسيس لإعلام عربي جديد ينظر له لفتح آفاق دولية لكسر حاجز الجمود والاختلاف، وللوصول إلى منظومة عالمية في ظل العولمة والمصالح المشتركة بعدما اصبح القاء قنبلة في سوريا او فلسطين يقابله انتحاري او انفجاري في الغرب، حيث نعتقد انه قد حان الوقت لزرع نخله في القدس لناكل من ثمرها نحن في الغرب
بقلم : المستشار محمد الغريانى